مقالات الدكتور عصام حداد عن التكريم


شربل بعيني كما عرفته
لعلّ شربل بعيني من القلّة من النّاس الذين يمدّون للحال أسلاكهم من قلب لقلب.
عرفته صدفة في (المربد)، مهرجان الشّعر في العراق، يباهي بانتمائه إلى شعراء المهاجر، وبأن لبنان الإنتشار يحمل مشعل الرسالة الوطنيّة على أوفى ما تكون الأمانة، ويكون الإيمان بالوطنيّة والمجد والخلود. فأكبرت فيه هذا الهوس الفريد في حبّ لبنان، يجنّد له كل قوى الفكر والعطاء في أوستراليا مع كوكبة مختارة من أهل القلـم الذين رفعوا علمهم فوق كلّ علـم.
وكم أصابتني قصيدته (المربديّة) عندما تحدّث عن غربته وقهره واحتراقه، ولكن هذه الغربة وهذا القهر وهذا الإحتراق كوّنت منه شاعراً يحسّ آلام الآخرين.
ولا عجب، فقد عمل ويعمل في سبيل أمّته، ومتى كان المهاجر غير قلب لبنان النّابض وشطره الأحبّ؟
الشّعر هو إخلاص ومعاناة وقد لمستهما فيه، وأعوذ بالشعر من الهذيان والمذاهب المصطنعة، فمهما أطلقوا عليه من تسميّات تبقى أحلى تسمية له (الشعر) فقط، لا قبل ولا بعد، ولا فرق بعدئذ كيف جاء لباسه، شرط أن يدخل القلب، ويدعو إلى رسالة وتجدّد ومجد.
قرأت له (الغربة الطويلة) فأصبت للبناني متوثّب شرّدته الأيام عن وطنه الأم، ولكن الجراح كوّنت منه لحناً شعرياً كالغدير المترقرق على هوس ومباهاة بحبّه الوفي، بقلبه المعطاء، بلبنانه المجرّح، ولا يتورّع أن يدلّ على عورات وهنات، وهذا هو الصدق. فالدلالة على الخطأ للإصلاح رسالة المفكّر الذي يريد أن يكون شاهداً على عصره، وصدى لشعبه، ومرآة لبيئته، وعصباً ودماً في جسده، وظلاًّ يقيه العاديات.
وقرأت له (كيف أينعت السّنابل؟)، فلمست براءته المحبّبة في إظهار مكامنه كيف جاءت، شرط أن يفهم الجمهور قصده، ولا فرق عنده كُسر بيت أم رثّ تعبير، ويقول إن هذا تجديد في الصياغة العربيّة، وإنه لا يريد من أدبه إلاّ أن يكون واضحاً، والحال إنه كالشمس وضوحاً، وكالبراءة صفاوة، وكالجدول عطاء.
شربل بعيني يعطي من قلبه بعفويّة الينبوع والورد، وتقع له على شطحات في قلمه رائعة، تبشّر بغد مثـمر يعد له مجداً أدبياً في عداد أدبائنا الكبار، وحسبه أنه يبذر في روح طلاّبه ومعارفه الروح الوطنيّة، والروح الإنسانيّة البعيدة عن روح التفرقة، التي كثيراً ما تستفيق في شرقنا الملوّع، فتحطّ به عن الرفعة بمصاف الأمـم.
كم أتمنّى أن يقرّب اللـه ذلك اليوم الذي نتلاقى فيه كلّنا تحت سماء لبنان، فنبنيه آية في الأمـم.
هذا الكلام كتبته ونشرته عام 1988، إثر لقائي الأول بشربل بعيني في المربد الشعري في العراق، وها أنا أتمسّك به أكثر وأكثر بعد معرفتي الطويلة به.. ولا عجب في اختياره أوّل أمير للأدب المهجري في عالـم الإنتشار، من قبل المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة ـ أميركا، ورئيسه الأديب جوزيف حايك، بل العجب كلّ العجب أن لا نفرح، مقيمين ومغتربين، بحسن هذا الإختيار. ألف مبروك لكم جميعاً في أوستراليا
***
ومرّت سنة على الإمارة
لـم نكن ننتظر، لا من الشرق ولا من الغرب، ليطوّبوك (الأمير).. فأنت طُوّبت على قلوب محبّيك من زمان.
يكفي هوسك الدائـم بلبنان، وجهدك المستمر في سبيل الفكر، وعملك ليل نهار، في الخفاء، لتنشّىء طلاّبك على التشبّث بوطنهم الأم.
من قال، إن الذي، منذ ثلاثين سنة، يسكن أستراليا وكأنّه نازل لتوّه من مجدليّا، ببراءة الروح، وحلاوة القلب، وصفاوة الفكر، ونضارة الأدب؟
ومهما سبكتك الحادثات، تبقى الإبريز في مصهرة الأيام، خالصاً نقيّاً لا يشوبه تراب.
يكفيك أنك حامل في الغربة همّ الشعر ومجد الوطن. تدلّ على العورات للإصلاح والصلاح. تحفز هذا.. تؤنّب ذاك.. ودائماً في هيصتك المعهودة، ولجلجتك المحبّبة، وأسلوبك القاسي اللذيذ، إلاّ مع ليلى حبيبتك، التي تغفر لك دائماً الأخطاء، مهما ارتكبت من جرائـم بحقّ التاريخ. إذ أن وراء ضلوعك قلباً لا يعرف الحقد.. ونيّتك، دائماً، ننتحل لها آلاف الأعذار، ونفترض لها دائماً البراءة. إذاً مغفورة لك خطاياك، فلا لزوم لكرسي الإعتراف.
أتمنّى ألاّ تبهرك الإمارة، فترمي منجلك أيها الحصّاد الماهر، الذي يحصد الأخضر واليابس، ولا يخلّي وراءه إلا كما يريد، أو العفير أو الإخضرارلقد أضحت مسؤوليتك أكبر، وعيون الشعر والأدب عليك. ليس عشرة عشرة، بل ألف عين وعين.
وقّاك اللـه من إصابة عين، يا من أنت في قلبي وعيني.
في الذكرى السنويّة الأولى لإمارتك الأدبيّة، يسعدني، يا صديقي شربل بعيني، أن أكون أول المهنّئين
***
أنتم أمه وأبوه وذووه
من وحي زيارة شربل بعيني للبنان
يا أحلى من المواعيد وصحوة الخير في النفس الطهور، ما زال في حيّنا ظلّك، على الزنبقات يتساحب في الضحوات وعلى ضوء القمر.
ها قد شرّعت لك القلوب، لتفلت لك من الحناجر كل الأهازيج على الرّحاب.
يا ضيعانك، تخلّي لبنانك مسرحاً للخفافيش والوطاويط، أنت الذي ربيت هنا على رأرأة الضوء، ورقرقة الشلاّل، ومسار العبير.
أين تغنّيك بأرزات هذه الرواسي الطالعة إلى السماء، أنت يا أطيب من نغمة المنجيرة، وأحرّ من النبض، وأعزّ من المجد وفصاحة العنادل؟
بروحي تلك الأنامل المشيقة تسلخ من شرايينك الحروف، وتحبكها حكايات سنيّة، وترانيم لاهبة تُشَدُّ إلى القلوب والعيون.
لقد فرشت لك الأهداب: يا هلا بطلعة ذلك الوجه الرضيّ والضحكة الصخّابة كقصفة بريق وشهقة رحيق. ها إنّي أطرح الصّوت على العباهر وأطباق الحبق في الحيّ لتلتمّ في مهرجان ملاقاةالحبيب.
أضحى الوطن فعلاً ماضياً ناقصاً، إلَّـم يلتحم به شطره الآخر ليتمّ إنّه أليف كلّ همّ بلا أمّ، لأنكم أنتم يا أهله الطيبين، أمّه وأبوه وحموه وفوه وذووه الأحبّاء الأصفياء الأوفياء.
أما جبلتموه بالعرق، بالدمّ، بالدموع؟
أما حملتموه رايات على مفارق الأمـم؟
أينزلق من بين أصابعكم كالزئبق والماء والهواء؟
الأمهات على الموانىء في شواطىء لبنان اللاهفة إليكم، يلوّحن بالمناديل للعائد من الغربة المالحة، يكسرن على العتبة الرغيف، ويدلقن النبيذ المعتّق، وينثرن الحندقوق والياسمين، ويلبسن العيد.
ماذا تعمل أيّها الحبيب في بلادٍ تسوس الهررة والكلاب أكثر من الإنسان؟
كفاك تزهق العمر على الرماد مع أنفاث لهاثات المدنيّة المتوحّشة والتكنولوجيا العمياء. إن لباس الجنفيص هنا أنعم من الحرير المستعار هناك. وإن المساميك العارية هنا أندى من الناطحات هناك. حتّى مَ البحر يجوع ويجوع؟ ونحن نأكل المرارة على الشموع بعيون مطفأة ويباس هذه السّحن في غمرة الضباب؟
متى يجفّ سيل الدم عن البحر، وتزهر العظام النخرة تحت السنديانات العتاق، ويجبر خاطر هذا الوطن المسكين الكسيح؟
لا لـن تعيش هنا كالضبّ، يا من عمّرت لك حيث عشت، حدّ وطنك، وطناً آخر، ونسجت من رموشك وعروقك راية وراية، فمعك هنا زند آخر ينبت معك الربيع والدفء والخير.
يا هلا بك تفقأ حصرمةً في عين الدهر المشتّ.. فها إنّ قلبي المشلَّع المنعصر عليك، على التلّة الغارقة بالضوء والعبير، قرب ذلك المعبد العتيق، ها إنه يشفى من شماتة العوازل وتمزّق الوداع.
لا لن ينشرنّ أحد، بعد اليوم، على صنوبر بيروت، إفلاسي منك، بل أنادي من ينادي معي، صبايا بيبلوس ليهيّئن لعشتروت وأدونيس، التاج والصولجان.
**